... عن الخوف العراقي المجلل بالغبار

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
07/05/2009 06:00 AM
GMT



تبدو بغداد مجللة بالغبار، لكأنها ترتدي بزة صحراوية، تموه الاشياء وتكسبها لوناً واحداً مملاً ومؤلماً. الاسفلت بلون التراب. الارصفة بلون التراب. المباني مكسوة بالتراب ذاته. النخيل لا خضرة في سعفه بل لون رملي، شأن الجذوع. وان ساورتك ريبة هبت عليك عاصفة رملية تبدو بلون اصفر يزداد قتامة فيصير برتقالياً ثم يشتد اللون فيصير بلون القهوة، ثم يسودّ.
لم يكن هذا القناع الصحراوي ليداهم بغداد في الايام الخوالي سوى ليوم او يومين في السنة. صارت العواصف الرملية جزءاً من كرنفال الحزن الذي يلفع المدينة.
تحت قناع الرمل والغبار والاتربة ثمة خوف دفين. الاستقرار الامني يبدو نعمة يلهج بها الجميع. فالاسواق ضاجة، والمطاعم في زحام. والمارة يمشون دون اكتراث بالسواتر الكونكريتية، حيطان الحماية والتقسيم، بقايا ذاكرة مدينة عاشت اهوال حرب مذهبية طاحنة. تبدو المشاعر الطائفية اخف وعيداً، الا انها لم تختف.
واذ يسرف البغداديون، الاقحاح والجدد، في اغتراف لحظات الهناءة هذه، فانهم في قرارة النفس يخشون من سعادتهم بالذات. ماذا لو عاد الاحتراب؟ هاجس العودة الى الدم المسفوح يوميا بلا حساب يخيم على العقول.
ولا يقتصر الخوف على الجمهور بل يخيم على القادة، برلمانيين ووزراء، مستشارين ومدراء كبارا، بيروقراطيين وتكنوقراطيين. الكل يخاف من التغيير القادم. فالبقاء في الموقع لم يعد مضموناً بكفالة حزب واحد حاكم. وتقف الانتخابات مثل سيف ديموقلس، مسلط على كل الرقاب. كثرة من نواب البرلمان يمتلكهم القلق من غموض الآتي. فالانتخابات المحلية في المحافظات حملت مفاجآت، جرفت الكثيرين الى مطاوي النسيان. لم تعد مقاعد البرلمان مضمونة. كما لم تعد مقاعد الوزارات مكفولة.
ثمة التياع من الخسارة في صفوف احزاب نافذة كانت، حتى الآن، تحسم وتقرر، ولم تعــد تدري ان كانت ستحتفظ بهذه القدرة على الحسم والقرار. فالحزب الاسلامي، مثلاً، مني بخسارة واضحة امام القوى المحلية الصاعدة. ولم يكن حال المجلس الاسلامي ولا الحركة الصدرية افضل قطعاً.
الناخب العراقي، على قلة درايته ودربته، يتحسس لاول مرة سلطته، ان لم يكن على القرار، فعلى الاقل قدرته على انزال العقاب بمن يرى انه ليس اهلاً للثقة، او بمن يرى فيه غطرسة السلطة.
في بازار العقاب والثواب الارضي هذا سيكرر العراق تجربة قديمة، زوال نحو اربعة في في المئة من الطاقم القيادي في الدولة عقب كل انتخابات برلمانية جديدة. ولما كان العراق المرقش بالاديان والمذاهب والاثنيات لا يعرف نظام الحزبين، فان كثرة الكيانات السياسية تحمل معها كثرة مماثلة في احتمالات الغموض.
لم اجد سياسياً واحداً مطمئناً. ولا نائباً واحداً هانئ البال، ولا تكنوقراطياً واحداً على يقين من تقلبات السياسة. فالعرب والكرد ينعمون بالمساواة في هذا القلق. وما من نأمة في عربستان، الا ويقابلها توجس في كردستان.
الحوار الهائج، الصريح، المحتدم، في برلمان بغداد يترك بصماته على اقليم كردستان، حيث يتساءل البعض عن سبب الصمت الذي يخيم على برلمانه. او يقارن بين الصراعات المكشوفة في بغداد، مقابل الصراعات الصامتة خارجها. ويتوجس بعض السياسيين من ان رياح السجال البغدادية مرشحة للانتقال في كل الجهات.
وهذا الحال يطبع مزاج جيران العراق. تركيا التي تحتل شركاتها اسواق كردستان مشاريع واستثمارات وبناء واستيراداً وتصديراً، ما تزال تحمل ضغائن الماضي ومخاوفه من الدولة الكردية المحتملة. وايران تبدو متعجلة للحصول على عقود ومواقع قبل الانتخابات القادمة المنذرة بمفاجآت.
والاميركان، بدورهم، لا يقلون عن قادة العراق وقادة جيرانه قلقاً وتوجساً. فهم يرون الى العراق يخرج من بين اصابعهم الحديدية. فأغلب عقود العراق الدسمة يذهب الى فرنسا والمانيا، واستراليا. ولعلهم، لهذا السبب اكثر من غيره، سارعوا الى حجز عقود التسليح، موافقين على بيع الجيش العراقي دبابات ابرامز، بعد ان امتنعوا بل اعاقوا تسليحه طويلاً. خروج الاميركان المقر في الاتفاقية هو مصدر قلق ومصدر ارتياح، عند هذا الفريق او ذاك.
بعد الخوف من المجاهيل السياسية، يأتي الخوف على القليل من الازدهار، وبالتحديد استقرار العملة، واستقرار السوق، وتحسن المداخيل. فالعراق ما يزال يعتمد سلعة وحيدة، هي النفط، والاقتصاد العالمي في وضع كالح لا يسعف. وتتجمع نذر الخوف الاقتصادي في مؤشرات شتى، فالعراقي، العادي والمسؤول، يوجه انظارك الى دجلة، الذي تحول الى ساقية. ازمة المياه قادمة وطاحنة، واسعار النفط في هبوط. فوق هذا وذاك، تفيد المعطيات ان ثمة مليوني ارملة في العراق، من مجموع خمسة عشر مليون انثى!
القادة قلقون من مغبة ازمة اقتصادية قد تهدم ما انجزوه في مجال الامن. حتى الانفتــــاح النسبـــي باتجاه المصالحة الذي يحمل الوعد بالتفاهم والاستقرار، ينطوي عند الكثيرين على نذر شؤم.
هناك الخوف المستديم، سواء كان على صواب او على خطأ، من زحف انصار النظام القديم على المؤسسة العسكرية والسعي للعودة بانقلاب عسكري. بعض الحالمين من انصار الماضي يلهجون بهذا سراً وعلانية، في نوع من الاستحلام.
هناك مخاوف عند العشائر وازاءها. بغداد الاسابيع الماضية تختتم مؤتمراً عشائرياً لتعقد آخر. عشائر بني تميم، عشائر عبيد، عشائر العراق، عشائر الجنوب. العشائر تريد استعادة دورها المفقود، وهي تخشى من ضياعه. والحضر في المدن يخشون من هذا الافراط في تضخيم دور العشائر وفرض العرف العشائري بديلاً عن القانون المدني. والحلفاء الصغار يخشون من هذا التوسيع لدور العشائر دعماً للحلفاء الكبار وتهميشاً لدورهم هم. وهناك اخيراً، مخاوف العرب والاكراد، التي تتركز اليوم في كركوك.
أسرّ لي سياسي بارز بما يشبه الانذار ان المسافة بين قوات الحكومة وقوات البيشمركة لا تزيد عن مئتي متر. في عالم التوتر والانقسامات، عالم المجاهل الامنية والسياسية، ليس ثمة قاسم مشترك سوى الخوف، وهو خوف من نوع جديد، الخوف من صناعة المستقبل، الخوف الساكن تحت اطنان الغبار، رمز الانسحاق.